فلما فرغ منه بيدبا من مقالته، وقضى مناصحته، أوغر صدر الملك فأغلظ له في الجواب استصغاراً لأمره؛ وقال: لقد تكلمت بكلامٍ ما كنت أظن أحداً من أهل مملكتي يستقبلني بمثله، ولا يقدم على ما أقدمت عليه. فكيف أنت مع صغر شأنك، وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت إعجابي من إقدامك علي، وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك. وما أجد شيئاً في تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك. فذلك عبرةٌ وموعظةٌ لكن عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من الملوك إذا أوسعوا لهم في مجالسهم. ثم أمر به أن يقتل ويصلب. فلما مضوا به فيما أمر، فكر فيما أمر به فأحجم عنه، ثم أمر بحبسه وتقييده. فلما حبس أنفذ في طلب تلاميذه ومن كان يجتمع إليه فهربوا في البلاد واعتصموا بجزائر البحار؛ فمكث بيدبا في محبسه أياماً لا يسأل الملك عنه، ولا يلتفت إليه؛ ولا يجسر أحدٌ أن يذكره عنده؛ حتى إذا كان ليلةٌ من الليالي سهد الملك سهداً شديداً ؛ فطال سهده، ومد إلى الفلك بصره؛ وتفكر في تفلك الفلك وحركات الكواكب، فأغرق الفكر فيه؛ فسلك به إلى استنباط شيءٍ عرض له من أمور الفلك، والمسألة عنه. فذكر عند ذلك بيدبا، وتفكر فيما كلمه به؛ فأرعوى لذلك. وقال في نفسه: لقد أسأت فيما صنعت بهذا الفيلسوف، وضيعت واجب حقه؛ وحملني على ذلك سرعة الغضب. وقد قالت العلماء: أربعةٌ لا ينبغي أن تكون في الملوك: الغضب فإنه أجد الأشياء مقتاً؛ والبخل فإن صاحبه ليس بمعذورٍ مع ذات يده؛ والكذب فإنه ليس لأحدٍ أن يجاوره؛ والعنف في المحاورة فإن السفه ليس من شأنها. وإني أتي إلى رجل نصح لي، ولم يكن مبلغاً؛ فعاملته بضد ما يستحق، وكافأته بخلاف ما يستوجب. وما كان هذا جزاءه مني؛ بل كان الواجب أن أسمع كلامه، وأنقاد لما يشير به. ثم أنفذ في ساعته من يأتيه به. فلما مثل بين يديه قال له: يا بيدبا ألست الذي قصدت إلى تقصير همتي، وعجزت رأيي في سيرتي بما تكلمت به آنفاً? قال له بيدبا: أيها الملك الناصح الشفيق، والصادق الرفيق، إنما نبأتك بما فيه صلاحٌ لك ولرعيتك، ودوام ملكك لك، قال له الملك: يا بيدبا أعد علي كلامك كله، ولا تدع منه حرفاً إلا جئت به. فجعل بيدبا ينثر كلامه، والملك مصغٍ إليه. وجعل دبشليم كلما سمع منه شيئاً ينكت على الأرض بشيءٍ كان في يده. ثم رفع طرفه إلى بيدبا، وأمره بالجلوس. وقال له: يا بيدبا، إني قد استعذبت كلامك وحسن موقعه من قلبي. وأنا ناظر في الذي أشرت به، وعامل بما أمرت. ثم أمر بقيوده فحلت. وألقى عليه من لباسه، وتلقاه بالقبول. فقال بيدبا: يا أيها الملك، إن في دون ما كلمتك به نهيةً لمثلك. قال: صدقت أيها الحكيم الفاضل. وقد وليتك من مجلسي هذا إلى جميع أقاصي مملكتي. فقال له: أيها الملك أعفني من هذا الأمر: فإني غير مضطلعٍ بتقويمه إلا بك. فأعفاه من ذلك. فلما انصرف، علم أن الذي فعله ليس برأي، فبث فرده. وقال: إني فكرت في إعفائك مما عرضته عليك فوجدته لا يقوم إلا بك، ولا ينهض به غيرك، ولا يضطلع به سواك. فلا تخالفني فيه. فأجابه بيدبا إلى ذلك.
وكان عادة ملوك ذلك الزمان إذا استوزروا وزيراً أن يعقدوا على رأسه تاجاً، ويركب في أهل المملكة، ويطاف به في المدينة. فأمر الملك أن يفعل ببيدبا ذلك. فوضع التاج على رأسه، وركب المدينة ورجع فجلس بمجلس العدل والإنصاف: يأخذ للدني من الشريف، ويساوي بين القوي والضعيف؛ ورد المظالم، ووضع سنن العدل، وأكثر من العطاء والبذل. واتصل الخبر بتلاميذه فجاءوه من كل مكان، فرحين بما جدد الله له من جديد رأي الملك في بيدبا؛ وشكروا الله تعالى على توفيق بيدبا في إزالة دبشليم عما كان عليه من سوء السيرة، واتخذوا ذلك اليوم عيداً يعيدون فيه فهو إلى اليوم عيدٌ عندهم في بلاد الهند.
فلما فرغ منه بيدبا من مقالته، وقضى مناصحته، أوغر صدر الملك فأغلظ له في الجواب استصغاراً لأمره؛ وقال: لقد تكلمت بكلامٍ ما كنت أظن أحداً من أهل مملكتي يستقبلني بمثله، ولا يقدم على ما أقدمت عليه. فكيف أنت مع صغر شأنك، وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت إعجابي من إقدامك علي، وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك. وما أجد شيئاً في تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك. فذلك عبرةٌ وموعظةٌ لكن عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من الملوك إذا أوسعوا لهم في مجالسهم. ثم أمر به أن يقتل ويصلب. فلما مضوا به فيما أمر، فكر فيما أمر به فأحجم عنه، ثم أمر بحبسه وتقييده. فلما حبس أنفذ في طلب تلاميذه ومن كان يجتمع إليه فهربوا في البلاد واعتصموا بجزائر البحار؛ فمكث بيدبا في محبسه أياماً لا يسأل الملك عنه، ولا يلتفت إليه؛ ولا يجسر أحدٌ أن يذكره عنده؛ حتى إذا كان ليلةٌ من الليالي سهد الملك سهداً شديداً ؛ فطال سهده، ومد إلى الفلك بصره؛ وتفكر في تفلك الفلك وحركات الكواكب، فأغرق الفكر فيه؛ فسلك به إلى استنباط شيءٍ عرض له من أمور الفلك، والمسألة عنه. فذكر عند ذلك بيدبا، وتفكر فيما كلمه به؛ فأرعوى لذلك. وقال في نفسه: لقد أسأت فيما صنعت بهذا الفيلسوف، وضيعت واجب حقه؛ وحملني على ذلك سرعة الغضب. وقد قالت العلماء: أربعةٌ لا ينبغي أن تكون في الملوك: الغضب فإنه أجد الأشياء مقتاً؛ والبخل فإن صاحبه ليس بمعذورٍ مع ذات يده؛ والكذب فإنه ليس لأحدٍ أن يجاوره؛ والعنف في المحاورة فإن السفه ليس من شأنها. وإني أتي إلى رجل نصح لي، ولم يكن مبلغاً؛ فعاملته بضد ما يستحق، وكافأته بخلاف ما يستوجب. وما كان هذا جزاءه مني؛ بل كان الواجب أن أسمع كلامه، وأنقاد لما يشير به. ثم أنفذ في ساعته من يأتيه به. فلما مثل بين يديه قال له: يا بيدبا ألست الذي قصدت إلى تقصير همتي، وعجزت رأيي في سيرتي بما تكلمت به آنفاً? قال له بيدبا: أيها الملك الناصح الشفيق، والصادق الرفيق، إنما نبأتك بما فيه صلاحٌ لك ولرعيتك، ودوام ملكك لك، قال له الملك: يا بيدبا أعد علي كلامك كله، ولا تدع منه حرفاً إلا جئت به. فجعل بيدبا ينثر كلامه، والملك مصغٍ إليه. وجعل دبشليم كلما سمع منه شيئاً ينكت على الأرض بشيءٍ كان في يده. ثم رفع طرفه إلى بيدبا، وأمره بالجلوس. وقال له: يا بيدبا، إني قد استعذبت كلامك وحسن موقعه من قلبي. وأنا ناظر في الذي أشرت به، وعامل بما أمرت. ثم أمر بقيوده فحلت. وألقى عليه من لباسه، وتلقاه بالقبول. فقال بيدبا: يا أيها الملك، إن في دون ما كلمتك به نهيةً لمثلك. قال: صدقت أيها الحكيم الفاضل. وقد وليتك من مجلسي هذا إلى جميع أقاصي مملكتي. فقال له: أيها الملك أعفني من هذا الأمر: فإني غير مضطلعٍ بتقويمه إلا بك. فأعفاه من ذلك. فلما انصرف، علم أن الذي فعله ليس برأي، فبث فرده. وقال: إني فكرت في إعفائك مما عرضته عليك فوجدته لا يقوم إلا بك، ولا ينهض به غيرك، ولا يضطلع به سواك. فلا تخالفني فيه. فأجابه بيدبا إلى ذلك.